بسم الله الرحمن الرحيم
أوقفني بعض المحبين على المناقشات التي كانت حول صحيح البخاري رحمه الله , والرواية عن آل البيت عليهم السلام فيه .
وقد تمنّ لي أن أوضح في هذه المشاركة ما أراه صوابا ان شاء الله تعالى .
وأقدم بين يدي الأخوة الكرام ما ذاع وانتشر وتقرر في العلوم الشرعية أن لكل فن رجاله , فالأمور العلمية لا ينبغي ابداء النظر فيها الا أهل العلم محل البحث حتى تتحدد الضوابط والمفاهيم ويكون النقاش مثمرا .
أما غير المتخصص في الفن محل البحث فالصواب له سؤال أهل الاختصاص بدلا من الكلام في أمور لا يحسنها , فيزداد الشقاق بين المسلمين , ويتسع الخرق على الراقع , ثم لا يخفى أنه لا يلزم من امام خطيب يحسن الامامة والخطابة أن يكون عالما بالتفسير , ولا يلزم من مشتغل بالفقه أن يكون عالما بالحديث .
اذا علم ما سبق فأقول وبالله التوفيق :
أولا : يجب أن نفرق بين مسألتين : صحة أحاديث صحيح البخاري , وامامة صاحبه في الحديث , هذه مسألة .
والمسألة الثانية : كون البخاري روى عن رواة معينين وأعرض عن آخرين .
المسألة الأولى
صحة أحاديث البخاري , وامامة البخاري
1- لا يختلف حفاظ الحديث و وهم أهل الاجتهاد في الحديث وعلومه أن البخاري ومسلما أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى , وأن حفاظ الحديث قد اتفقوا على صحة أحاديثهما سوى أحرف يسيرة وقع التنازع فيها من بعض الحفاظ كالدارقطني وأبي مسعود الدمشقي .
2- واتفق الجماهير من حفاظ الحديث وعلماء الفقه والأصول على أن الأمة تلقت الكتابين بالقبول وحكمت عليهما بالصحة الاجمالية , وقد حوى الصحيحان من حسن الصناعة , وجودة السبك , والاتقان الزائد و والتحري الموفق ما جعلهما في أعلى كتب الحديث على الاطلاق , لذلك تبارى الحفاظ في شتى الأمصار الإسلامية على مدحهما , واظهار فضائلهما و وشرحهما والاستخراج عليهما .
3- والحق يقال : إن الصحيحين مفخرة اسلامية عظيمة , وليس الخبر كالمعاينة وينبغي لأهل العلم النظر في مقدمة فتح الباري للحافظ ابن حجر العسقلاني فسيعرف المكانة السامية للصحيحين لا سيما صحيح البخاري , وأن اختيار الأسانيد والمتون في الصحيح كانت وفق أصول علمية دقيقة.
4- والذي أحب أن أقرره هنا أن حفاظ الحديث من الشيعة كانوا كثرة لا سيما من الكوفيين في القرون الثلاثة , وبعد أن تفرق الشيعة الى مذاهب لم نقف عند الإمامية على حافظ واحد له معرفة بالحديث وفنونه كحفّاظ أهل السنة والجماعة .
والكتب المصنفة في الحديث ورجاله عند أهل السنة قد تقدمت جدا جداوفاقت ما عند الامامية مراحل كثيرة , فانعدم عند الامامية العناية المؤثرة بالجرح والتعديل ورجال الحديث , بينما الأمر يختلف تماما عند أهل السنة الذين أخرجوا تواريخ البخاري , والجرح والتعديل للرازي , وضعفاء العقيلي وابن حبان ,...,..., الى أن أصبح بين أيدينا الميزان ولسانه , وتهذيب الكمال وتهذيبه , وغير ذلك بينما بقي ما عند الامامية في مراحل متأخرة جدا , وانظر الى كتاب " تنقيح المقال " للماقاني , و "نقد الرجال " للتفرشي ترى أنه لا نسبة بين كتب أهل السنة والامامية في الرجال .
5- وبسبب هذا النقص الخطير في آلات الإمامية الحديثية انعدمت عندهم كتب التخريج التي اشتهرت بكثرة عند أهل السنة وبات الامامية في عجز كامل عن اللحاق بأهل السنة , وبقيت كتب الإمامية الحديثية تحتاج الى توثيق اجمالي وتفصيلي , وبالتالي انعدمت الثقة في كتب الحديث المتداولة عند الإمامية و وهي تحتاج لمجهود قرن كامل يتوفر فيه جمع عظيم من المتخصصين في الحديث لسدّ هذا العجز .
وهذا النقص الخطير حدّثت به عددا من الإمامية , وبعضهم اعترف بما عندهم من عجز ونقص , وآخرون كابروا.
المسألة الثانية
سبب إعراض البخاري عن الرواية عن بعض الائمة
اعلم أخي المفضال أنه لما كان صحيح البخاري بهذه المرتبة العالية عند الحفاظ والفقهاء والأصوليين و افتخر الناس بوجود أئمتهم في هذا الكتاب وسعدوا بذلك .
بينما رأى آخرون أن الصحيح قد خلا من أئمتهم أو كاد أن يخلو منهم وكما قدمت فإن الرواية عن بعض الأئمة لا يقدح في
صحة الحديث , فان الجهة منفكة تماما بين مسألتين هما صحة أحاديث الصحيحين , ومجانبة الرواية عن بعض الأئمة .
وقديما أثار بعض العلماء في القرنين الرابع والخامس الهجري .
مسألة ترك احتجاج البخاري بالإمام الشافعي رضي الله عنه , وقد أفرد حافظ المشرق أبو بكر البغدادي هذه المسألة بمصنف مطبوع اسمه "مسألة الاحتجاج بالشافعي فيما أسند إليه والرد على الطاعنين بعظم جهلهم عليه"
وقد بين الخطيب البغدادي في كتابه المذكور أن البخاري انما ترك الرواية عن الشافعي لا لمعنى يوجب ضعفه , ولكن طلبا لعلوّ الإسناد .
فالبخاري لم يشافه الشافعي , وروى عمن هو أكبر من الشافعي سنا وأقدم سماعا فلو روى البخاري عن الشافعي لنزل بالإسناد واسطة أو واسطتين .
وهكذا أجاب الخطيب الحافظ المتخصص عن المسألة بفهم وعلم وسدّ الباب تماما ,ثم تبعه حافظ آخر هو أبو بكر البيهقي في كتابه "بيان خطأ من أخطأ على الشافعي " وهو مطبوع أيضا.
اذا علمت ما سبق فالسؤال الذي طرح ويطرح نفسه كثيرا هو :
لماذا لم يرو البخاريّ لأئمة آل البيت عليهم السلام؟
هذا سؤال مهم , ويحتاج لإمعان نظر بدون تشدد ولا إرهاب فكري , فأكرر أولا ما سبق من صحة أحاديث الصحيح و ولا يلزم من مجانية البخاري لحديث أئمة آل البيت عليهم السلام القدح في صحيح البخاري المتفق بين أهل الصناعة على صحته , وأقول الاتي :
أولا: أئمة آل البيت كعليّ بن الحسين والباقر , وزيد بن علي , وابنه يحي و والصادق وأولاده , والحسن المثنى وأبنائه زيد , والحسن و وابنيه ابراهيم , وعبدالله الكامل , وأبناءه النفس الزكية , وقد ترجمهم وغيرهم ابن حبّان في كتابه "مشاهير علماء الأمصار" فانظره غير مأمور .
ثانيا: هؤلاء الأئمة الثقات المجتهدون هم أحد الثقلين كان لهم أصحاب كثيرون من الفقهاء والمحدثين , وهؤلاء لهم أصحاب وقد اتصلت أسانيد أئمة الحديث البخاري وغيره بهؤلاء الأصحاب بوسائط صحيحة , أو بدون وسائط , فكان يمكن للبخاري أن يسند أحادي كثيرة من طريق أئمة آل البيت عليهم السلام ,
نعم توجد أحاديث نادرة لآل البيت ولكن هذا قطرة من بحار مروياتهم بحيث أنك اذا قارنت مرويات آل البيت قاطبة في الصحيحين لن تزيد عن مرويات أحد المقلين :!
ثالثا : أن البخاري روى في صحيحه عن عدد من شيعة آل البيت الذين يتصلون بأسانيدهم الى أئمة آل البيت عليهم السلام .
رابعا : أن البخاري روى في صحيحه عن عدد كبير من أعداء آل البيت من النواصب والخوارج.
وفي هذه المعضلة يقول العلامة أبو بكر بن شهاب الدين الحسيني الذي هو من أعلم السادة آل باعلوي في عصره رحمه الله تعالى :
قضية أشبه بالمرزئة
هذا البخاري امام الفئة
بالصادق الصديق ما احتج في
صحيحه واحتج بالمرجئة
ومثل عمران بن حطّان أو
مروان ............
مشكلة ذات عوار الى
حيرة أرباب النهى ملجئة
وحق بيت يممته الورى
مغذة في السير او مبطئة
ان الإمام الصادق والمجتبى
بفضله الآي أتت منبئة
أجل من في عصره رتبة
لم يقترف في عمره سيئة
قلت : هذه قضية تحتاج الى حلّ من جهتين :
الأولى : سبب عدم رواية البخاري عن أئمة آل البيت عليهم السلام
الثانية : سبب رواية البخاري عن الخوارج والنواصب .
والذي أظنه أن البخاري لم يرو عن آل البيت في صحيحه بسبب الأمور السياسية , وهذا أمر لم ينفرد به البخاري فمجانبة حديث وفقه آل البيت من كتب كثيرة نجلها ونحبها له أسبابه السياسية المؤلمة والتي يطول شرحها .
وأما سبب رواية البخاري عن الخوارج والنواصب , فهذه أيضا معضلة أكبر من الأولى ولعله نظر لضبط الرواة فقط أو اعتبر احاديثهم فهي صحيحة من جهات متعددة و أو أنه لم يرو لهم في الأصول , وهذا أيضا يطول شرحه , ومهما يكن من أمر فهو لا يقدح في صحة أحاديث صحيح البخاري , وفي هذا القدر كفاية لمن كان من أهل العلم والعناية .
ونسأل الله تعالى أن يوفق أهل العلم والمراكز البحثية في العالم الإسلامي لعمل علمي كبير هو دين في عنق الأمة ألا وهو توثيق النصوص الواردة عن فقه وحديث آل البيت عليهم السلام , فكيف يكون تراث آل البيت وهم الثقل الثاني ما بين إعراض وإهمال ومحو وبين احتياج لتوثيق , نعم في كتب السادة الزيدية عليهم السلام خير كثير , ونقل مذهبهم بواسطة الأئمة المجتهدين المعتمدين , وشرح هذا أيضا يطول , ولعلنا نعود اليه في مقال آخر