وصايا الشيخ سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه
وكان رضي الله عنه يركز في تربية المريد على التوحيد الخالص والتجرد التام والصدق مع الله: قال سيدنا رضي الله عنه: [والواجب في حق السالك أن يمسي ويصبح ويظل ويبيت ليس له مراد إلا شيئان, الأول: هو الله عز وجل اختيارا عن جميع الموجودات واستغناء به عنها وأنفة من لحظها لمحة، وغيرة أن يختار سواه، وليكن الله عز وجل هو مبدأ مراده ومنتهاه، وأول مراده وآخره، ومفتتحه ومختتمه، ومستغرقا لقصر مراده عليه فيما ذلك كله حتى لا تبقى لمحة يريد فيها غيره، لان إرادة الغير إما طمع أو عبث، والثاني: من مرادات السالك أن يكون كله لله عز وجل خالصا من ربقة غيره، كامل التعلق به سرا وروحا وعقلا ونفسا وقلبا وقالبا حتى لا يكون منه ذرة متخلفة عن الله تعالى، واقفا مع مراده عز وجل منسلخا عن جميع الإرادات والاختيارات والتدبيرات والحظوظ والشهوات والأغراض واقفا في ذلك لله لا لشيء منه لنفسه ولا بنفسه، وليكن ذلك عبودية لله عز وجل من اجله وإرادة لوجهه وأداء لحق ربوبيته لا يعود عليه منه شيء ولا يختار على الله عز وجل أن يكمل مراده بل يتخلص على عبودية لربه عز وجل لا قنوطا من خيره لئلا يكفر، ويحسن ظنه به لما هو عليه من كمال الصفات المحمودة],
ويخاطب المريد: [عليك بالله عز وجل في سرك وعلانيتك؛ بتصفية قلبك من مخالفة أمره, والتعويل على الله بقلبك, والرضى بحكمه في جميع أمورك, والصبر لمجاري مقاديره في كل أحوالك, واستعن على جميع ذلك بالإكثار من ذكر الله على قدر الإستطاعة بحضور قلبك], ويحذر من التهافت على الدنيا فيقول: [وإياك والانهماك في مطالب دنياك حتى تتعدى حدود الله التي حدها في شرعه فتهلك نفسك, ومالك ملجأ من الله، وأنظر إلى قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح: (ألا وأن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله واجملوا في الطلب ولا يحملنكم استبطاء شيء أن تطلبوه بمعصية الله فإن الله لا ينال ما عنده إلا بطاعته)، وهذا البحر هو الذي ترى فيه جميع الخلق غرقى وهلكى إلا من عصمه الله بفضله].
ويؤكد على أن يكون الحب والبغض لله وليس للهوى فيقول: [من كان يحبني لله تعالى ورسوله فليحبني، ومن كان يحبني لغرض فبالله الذي لا إله إلا هو أنا عامي صرف لم يكن لي شيء], ويقول كذلك: [وصونوا قلوبكم إذا رأيتم أحدا فعل حقاً يخالف هواكم أو هدم باطلاً يخالف هواكم أن تبغضوه أو تؤذوه فإن ذلك معدود من الشرك عند الله تعالى، فقد قال صلى الله عليه وسلم : (الشرك في أمتي أخفى من دبيب النمل على الصفا، وأقل ذلك أن تحب على باطل أو تبغض على حق) أو كما قال صلى الله عليه وسلم مما معناه هذا، وكذا صونوا قلوبكم عمن فعل باطلاً أو هدم حقاً يخالف هواكم أن تحبوه أو تثنوا عليه فإنه أيضاً معدوداً من الشرك عند الله تعالى فإن المؤمن يحب الحق ويحب أهله ويحب أن يقال الحق ويعمل به، ويبغض الباطل ويبغض أهله ويبغض أن يقام الباطل ويعمل به].
وكان رضي الله عنه يذكّر الناس بنعم مولاهم وما خولهم وأولاهم ويرشد بذلك إلى محبة الله سبحانه والحياء منه أن يعصى بسبب ما أسداه لعباده وما يجريه عليهم دائما أبداً من أفضاله وإحسانه، ويتلو: {وأسبغ عليكم نعمة ظاهرة وباطنة}, ويكثر الكلام في ذلك جل أوقاته. ويدعو إلى شكره: [عليكم بشكر النعم الواردة من الله تعالى بسبب أو بلا سبب, والشكر يكون بمقابلتها بطاعة الله إن قدر على أن يكون كلية وإلا فالأبقع خير من الأسود كله, فما اعجز ممن عجز عن شكر اللسان، وليكن ذلك بالوجوه الجامعة للشكر, فأعلى ذلك من شكر اللسان تلاوة الفاتحة في مقابلة ما انعم الله عليه شكرا ولينو عند تلاوتها أنه يستغرق شكر جميع ما أحاط به علم الله من نعمه عليه الظاهرة والباطنة والحسية والمعنوية، والمعلومة عند العبد والمجهولة لديه، والعاجلة والآجلة والمتقدمة والمتأخرة، والدائمة والمنقطعة ويتلو بهذه النية ما قدر عليه من الفاتحة من مرة إلى مائة، فمن فعل ذلك كتبه الله شاكرا وكان ثوابه المزيد من نعمه على قدر رتبته بحسب وعده الصادق].
ويحذر من الإستهانة بحرمة الأولياء, ويوضح: [فلسنا نستهزئ بحرمة ساداتنا الأولياء رضي الله عنهم ولا نتهاون بتعظيمهم، فعظموا حرمة الأولياء الأحياء والأموات، فإن من عظم حرمتهم عظم الله حرمته ومن أهانهم أذله الله وغضب عليه، فلا تستهينوا بحرمة الأولياء].
كما جعل بر الوالين وصلة الرحم من شروط السلوك: [من لم يبر والديه لا يتيسر له سلوك هذه الطريق], ويقول [وعليكم بصلة الأرحام من كل ما يطيب القلب ويوجب المحبة, ولو بتفقد الحال, وإلقاء السلام, وتجنبوا معاداة الأرحام, وعقوق الوالدين, وكل ما يوجب الضغينة في قلوب الإخوان, وتجنبوا البحث عن عورات المسلمين, فإن من تتبع ذلك فضح الله عورته وهتك عورة بنيه من بعده, وأكثروا العفو عن الزلل, والصفح عن الخلل لكل مؤمن, وآكد ذلك لمن واخاكم في الطريقة, فإن من عفا عن زلة عفا الله له عن زلات كثيرة, ومن وقع فيكم بزلة ثم جاءكم معتذراً فاقبلوا عذره وسامحوه لكي يقبل الله أعذاركم ويسامحكم في زلاتكم، فإن شر الإخوان عند الله من لا يقبل عذراً ولا يقيل عثرة، وتأملوا قوله سبحانه وتعالى: {سارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين}].
كما يحذر أشد التحذير من إهمال حقوق الإخوان فيقول: [وإياكم ثم إياكم أن يهمل أحدكم حقوق إخوانه مما هو جلب مودة أو دفع مضرة أو إعانة على كربة فإن من ابتلي بتضييع حقوق الإخوان ابتلي بتضييع الحقوق الإلهية والله في عون العبد ما كان في عون أخيه].
أما أهل الشر فيقدم نصيحة العارف بطبيعة النفوس وسنن الله في الخلق فيوصي: [وعليكم بالغفلة عن شر الناس وعدم المبالاة بما يجرى منهم من الشرور، وعليكم بالصفح والتجاوز عنهم فإن مناقشة الناس عما يبدو منهم وعدم العفو عنهم يوجب للعبد عند الله البوار في الدنيا والآخرة، وكلما دنوت بمقالة شر بمثله تزايدت الشرور وتنكسر بالعبد قوائمه في جميع الأمور, فلا مقابلة للشر إلا الغفلة، والحذر الحذر لمن تحرك عليه شر الناس منكم؛ أن يبادر إليه بالتحرك بالشر لمقتضى حرارة طبعه, وظلمة جهله, وعزة نفسه، فإن المبادر للشر بهذا وإن كان مظلوماً فاضت عليه بحور الشر من الخلق, يستحق الهلاك به في الدنيا والآخرة، وتلك عقوبة لاعتراضه عن جناب الله أولاً, فإنه لو فزع إلى الله بالتضرع, و الشكاية, واعترف بعجزه وضعفه, لدفع الله عنه ضرر الخلق بلا سبب, أو بسبب لا تعب عليه, أو يشغلهم الله بشاغل يعجزون عنه, فإما أن يفعل الله له هذا، وإما أن ينزل عليه اللطف العظيم أو الصبر الجميل].
أما المصائب فلا تقابل إلا بالصبر: [وليكن في علمكم أن جميع العباد في هذه الدار أغراض لسهم مصائب الزمان، إما بمصيبة تنزل أو بنعمة تزول أو بحبيب يفجع بموته أو هلاك أو غير ذلك مما لا حد لجمله وتفصيله فمن نزل به منكم مثل ذلك فالصبر الصبر لتجرع مرارتها, فإنه لذلك نزل العباد في هذه الدار].
ومن الأمور التي كان يعتني بها أشد العناية ويؤكد عليها في جميع وصاياه الصلاة والصدقة وأكل الحلال, قال رضي الله عنه: [وأديموا الصلوات المفروضة في الجماعات بالمحافظة؛ فإنها متكفلة بالعصمة من جميع المهلكات إلا في نبذ قليلة توجب العقوبات, وإن لله سبحانه وتعالى للمداوم عليها عناية عظيمة, فكم يجبر له من كسرة, وكم يستر له من عورة, وكم يعفو له عن زلة, وكم يأخذ له بيده في كل كبوة، وعليكم بالمحافظة على الصدقات في كل يوم وليلة إن استطعتم, ولو فلس نحاس أو لقمة واحدة, بعد المحافظة على أداء المفروضات المالية, فإن عناية الله تعالى بالعامل في ذلك قريب من المحافظ على المفروضات في الجماعات], و[.. والأمر الثاني مما أوصيك به: ترك المحرمات المالية شرعاً أكلاً ولباساً ومسكناً, فإن الحلال هو القطب الذي تدور عليه أفلاك سائر العبادات, ومن ضيعه ضيع عبادة العبادة، وإياك أن تقول أين تجده فإنه كثير الوجود في كل أرض وفي كل زمان, لكن يوجد بالبحث عن توفية أمر الله ظاهراً وباطنا,ً ومراعاة ضرورة الوقت إن لم يوجد الحلال الصريح، وهذا المحل يحتاج إلى فقه دقيق, واتساع معرفة الأحكام الشرعية, ومن كان هكذا لم يصعب عليه وجود الحلال].
كما كان يوصي باستمرار بالطاعة ويحذر من المعاصي: [وبعد فأوصيكم بما أوصاكم الله به, وأمركم به, من حفظ الحدود, ومراعاة أمر الله على حسب جهدكم واستطاعتكم, فإن هذا زمان انهدمت فيه قواعد الأمر الإلهي جملة وتفصيلاً، وانهمك الناس فيما يضرهم دنيا وأخرى, بحيث لا رجوع ولا يقظة لما يصرف القلوب إلى الله والوقوف عند حدوده أمراً أو نهياً, ولا طاقة لأحد بتوفية أمر الله في هذا الوقت إلا لمن لبس حلة المعرفة أو قاربها, ولكن حيث كان الأمر كما ذكر, ولم يجد العبد مصرفاً عما أقامه الله فيه فالأبقع خير من الأسود كله, فاتركوا مخالفة الله ما استطعتم, وقوموا بأمره على حسب الطاقة].أ.هـ
أما النفوس فهو طبيبها, فيقدم للسالكين منهج التزكية في عبارات مركزة: [وان أراد تقويم اعوجاج نفسه: فليشتغل بقمع نفسه عن متابعة هواها, مع دوام العزلة عن الخلق, والصمت, وتقليل الأكل, والإكثار من ذكر الله تعالى بالتدريج, وحضور القلب مع الذكر, وحصر القلب عن الخوض فيما يعتاده من الخوض في أمور الدنيا وتمنيها وحبها, وحصر القلب عن الخوض في جميع المرادات والاختيارات والتدبيرات, وعن الخوض في أخبار الخلق, وذم القلب عن الجزع من أمر الله تعالى, فيداوم هذه الأمور تتزكى النفس وتخرج من خبثها إلى مطابقة أمر الله, وإلا فلا].
وقال رضي الله عنه بلسان العارف بالله يوصي بتقوى الله ويحذر من المعصية والأمن من مكر الله ويدعو الى المبادرة بالتوبة: [وأوصيكم وإياي بتقوى الله تعالى, وارتقاب المؤاخذة منه في الذنوب, فإن لكل ذنب مصيبتين لا يخلو العبد عنهما والمصيبتان؛ واحدة في الدنيا وواحدة في الآخرة, إلا أن تقابل بالعفو منه سبحانه وتعالى، ومصيبة الدنيا واقعة بكل من اقترف ذنبا, إلا أن يدفعها وارد إلهي بصدقة لمسكين, أوصله رحم بمال, أو تنفيس عن مديان بقضاء الدين عنه أو بعفوه عنه إن كان له, وإلا فهي واقعة، فالحذر الحذر من مخالفة أمر الله، وإن وقعت مخالفة, والعبد غير معصوم؛ فالمبادرة بالتوبة والرجوع إلى الله، وإن لم يكن ذلك عاجلاً, فليعلم العبد أنه ساقط من عين الحق، متعرض لغضبه إلا أن يمن عليه بعفوه، ويستديم في قلبه أنه مستوجب لهذا من الله، فستديم بذلك انكسار قلبه, وانحطاط رتبته في نفسه دون تعذر، فما دام العبد على هذا فهو على سبيل خير، وإياكم والعياذ بالله من لباس حلة الأمان من مكر الله في مقاربة الذنوب، باعتقاد العبد أنه آمن من مؤاخذة الله له في ذلك، فإن من وقف هذا الموقف بين يدي الحق تعالى ودام عليه، فهو دليل على أنه يموت كافراً والعياذ بالله تعالى], ويقول أيضا: [وإياكم ولباس حلة الأمان من مكر الله في الذنوب, فإنها عين الهلاك].
مقال للأستاذ.سعيد ديدي
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه